“- يبدو أنكِ تملكين كل شيءٍ هنا !
– أجل، هذه أول مرةٍ أستفيد من أشيائي… أردتُ منزلاً خاصاً بي؛ لذا أحضرتُ كل أشيائي إلى هنا… شيءٌ من هذا القبيل… وأيضاً هذا أنسب مكانٍ لتشغيل المذياع…
– مذياع؟!
– هكذا نكون قد انتهينا ! … هل تحبين أن تسمعي؟ “
كان هذا جزءاً من حديثٍ عفوي، بسيطٍ ومتناغم دار بين صديقتين التقتا قبل ساعةٍ من هذا الحوار.
يبدو أن أفلام “الإنميشن” اليابانية تبرعُ في إبراز فلسفتها العميقة المتصلة بعالم الروح وأسرار الحكمة الشرقية المتوارثة عندهم منذ سنين طويلة؛ فلا عجب إذن من أن تنال إعجاب الناس بها حول العالم.
إنَّ ما تقدمه هذه العروض المرئية من تغذيةٍ لهوية ومبادئ وقيم الشعوب الشرقية يجعل من الحوار الذي ذُكر أعلاه -على بساطته- أنموذجاً “فنياً” لمدى أهمية معرفة الإنسان لنفسه. وكيف أنه إن عرف نفسه استطاع ببساطة أن يتعامل مع تساؤلات وشكوك الآخرين -حوله وحول ما يتخذه من قرارات تخص نمط حياته- بكثير من “البساطة” و”الثقة” بما يفعله، مهما بدت شخصيته للآخرين “غريبة” أو “غير مألوفة” ، أو تعرّض “للتهكُّم” أو “التنمر” كما يحلو للبعض أن يسميه اليوم، وهذا ما أعتقد أنه يسمى بـ “قوة الشخصية”.
ولقد قال العارفون عندنا قديماً: “من عرف نفسه عرف ربه“. وقال بعضهم: “والعكس صحيح، أي أنّ من عرف ربه عرف نفسه”.
وبمناسبة وقوفنا على هذا الكلام أذكر أنه أثناء استماعي مرةً لتلاوةٍ عذبةٍ خاشعة مخبتة مرَّت عليَّ آيةٌ كريمة وكان لوقعها على قلبي أثرٌ شبيه بالزلزلة الشديدة! لقد قرأ القارئ -وأسأل الله أن يجعل هذا في ميزان حسناته؛ فأفضل مكافأة يقدمها الإنسان لغيره ممن تسبب له بالفضل أو الخير هي أن يدعو له- قول الله تعالى: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ“[1].
وقد تزامن وقت سماعي لها مع حالةٍ نفسيةٍ سيئةٍ ومضطربة للغاية، إذ كنت خارجة من أزمةٍ عصيبة، ومقبلة في الوقت نفسه على أعتاب تغيراتٍ مفاجئة قلبت كل ما كنت قد أعتبره “استقراراً نفسياً” في حياتي.
فكأني كنت في نومٍ عميق وجاء أحدهم وأيقظني دون أن يبدي لي أسباباً واضحة!
هل هذا الأمر تزكيةٌ ومدحٌ للنفس أم هو من باب التحديث بالنعمة؟ الله أعلم. ولكني عندما أرى خيرية وجمالية وجود الله في حياة واحدٍ منا أحب وأتحرق في داخلي أن يخبرني أحدٌ بما شعر به من أحوالٍ إيمانية ونفسية مختلفة، لأثبِّت نفسي وأبشرها بكلامه، ولأشعر أن لي أصدقاءً روحيين شبيهين بروحي التي تشتاق للقيا هذه الأرواح النقية في نعيم الجنة.
“المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكفُّ عنه ضيعته ويحوطه من ورائه”[2]:هكذا يخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أثر الصديق المؤمن في حياتنا وأهمية وجوده بالنسبة لروحنا وإيماننا، وكيف أنه يكون مرآةً عاكسةً لنا ننظر لأنفسنا بعينه وكلامه.
وقد تشوه مفهوم الصداقة في هذا الزمن فأصبح الصديق هو من “يجامل” على حساب مصلحة صديقه الحقيقية، وأصبحت “النصيحة” الثمينة شكلاً من أشكال التدخل الشخصي أو الحسد أو سوء الظن والريبة.
لقد أحاطنا الزيف في كل شيء وتغلغل فينا حتى نسينا من نحن ومن هو صديقنا ومن هو عدونا. وهذه ليست دعوةً تشاؤمية تستجر آلام الماضي وتذِّكر بهموم الحاضر. ولكنها دعوةٌ للرجوع إلى المقاييس الأصلية التي نؤمن بها ونعتزُّ بها في تقييمنا لأنفسنا وغيرنا وجودة حياتنا.
ولعل ما يقابلُ “الزيف” ويكون وسطاً بينه وبين “السبهللة أو المبالاة” هو مفهوم “البساطة”، المفهوم الذي أصبحنا نتلهف لعودته إلينا ونحِنُّ إلى وجوده في تفاصيل حياتنا.
وتذكر أيها الإنسان أن الله -وحده- هو القادرٌ أن يرفع عنك أغلال هذا الزيف وأثقاله. وهو الكفيلُ -وحده- بأن يحيي قلبك من جديد ويعمره بالسكينة والسلام والأنس به، إن صدقت معه.
[1] سورة الحشر، آية 19
[2] رواه البخاري في الأدب المفرد. شرح المفردات: يكف عليه ضيعته: أي: يكون عوناً له. ويحوطه من ورائه: ينصح له في حضوره وفي غيابه.