ماذا لو أن استيقاظك كل يومٍ هو ولادةٌ جديدةٌ للغاية التي خُلقت مِن أجلها؟ ماذا لو أن الله يحبنا فيَهَب ويسخر لنا ما في السماء والأرض جميعها؟ ماذا لو استشعرنا أن إشراقة شمس كل يومٍ هي بالدرجة الأولى فرصة؟ بل إن مع كل شهيقٍ وزفيرٍ تتجلى رحمة الله، ومع كل تكبيرةٍ عقيدة تُرسخ فينا أن الله أكبر؛ الله أكبر من حزننا و مخاوفنا، الله أكبر من كل ما لا نقدر على إدراكه بعقلنا البشري، الله أكبر بل وقادرٌ على أن يضمد جراح قلبك المنكسر.
يكفي أن تجد بوصلتك وتقف مجددًا حتى وإن كان سَيرُك تجاه طريقك -الذي لطالما تذبذبت فيه- منكسرًا بطيئًا، خطواتك ثقيلة، وجروحك عميقة. فعلى قدر الكسر يكون الجبر، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة.
فها أنت الآن بوصلتك في كفيك، ها أنت الآن بصدد ولادةٍ جديدة. تبدأ بولادة القلب الحي المتحرر من أسر طبعه وهواه.
تَمسَّك بزمام بوصلتك جيدًا، تَرفَّق في خطواتك وتأكَّد أن الله معك بل ويريدك؛ ” وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا”[1]
وروى الترمذي عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَال :
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ” يا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي “.[2]
لو أننا استشعرنا نداء الله لنا في هذا الحديث فقط، لما فقدنا بوصلتنا أبدًا، ولما كانت العودة بهذا الثقل.
فدعاؤنا إلى الله فضله ومغفرته بنا رحمة؛ والسير إلى طريق الله يبدأ من هنا دعاءً ورجاءً فمغفرة. فما بال الطريق على دفتيه مضيء بنور الاستغفار. فكيف بالسير في هذا الطريق؟
ولكن مع كل ولادةٍ جديدةٍ مخاض، وكل خطوةٍ قد يصحبها الكثير من العثرات، وفرحة الله بتوبة عبده العاصي كما المولود يوم ولدته أمه على فطرته وصفائه ونقائه كمن لا ذنب له. ألا وإن التوفيق إلى التوبة -أي أن تقرر السير إلى الله من جديد- لَرحمةٌ من الله يتفضل بها على عباده. أيضاً روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : “إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ” فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: “يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْت”[3]
ومن رحمة الله بنا أن يبتلينا بعد غفلة؛ فيأخذ بيدنا ويدلنا بعد شتات، ويرسل علينا من فيض فضله فيكون الابتلاء نجاة، وتكون الأرض بما رحبت جنةً مصغرةً نعيش فيها بمعية الله. فلا نبالي لأن قلبنا مطمئنٌ نابضٌ بصدق اليقين …
“ولا يبلغ العبد منزلة الرِضا حتى يستقر في قلبه اليقين بأن عطاءات الله تجري في أشياء تُمنع عنه، كما تأتي في أشياء تُمنح له.”
ويقول ابن عطاء الله السكندري: ” ربما أعطاك فمنعك، و ربما منعك فأعطاك، و متى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع عين العطاء”[4] و أيضا يقول؛ ” إنَّما يُؤلِمُكَ المَنْعُ لِعَدَمِ فَهْمِكَ عَنِ اللهِ فيهِ. “[5]
“إلهي لا تعذبني فإني
مُقرٌّ بالذي قد كان مني
ومالي حيلةٌ إلا رجائي وعفوك
إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلةٍ لي في البرايا
وأنت عليَّ ذو فضلٍ ومنّ
إذا فكرتُ في قدمي عليها
عضضتُ أناملي وقرعتُ سني”[6]
فالحمد لله على حياةٍ يُدبّرها اللهُ برحمته….
[1] سورة النساء، 27
[2] سنن الترمذي، “الدعوات”، 3540
[3] سنن الترمذي، “القدر”، 2142
[4] ابن عطاء الله السكندري، “الحكم عطائية”
[5] ابن عطاء الله السكندري، “الحكم عطائية”
[6] أبو العتاهية، ديوان أبي العتاهية