إن المشترك العظيم الذي توافق عليه جمع من الفلاسفة والأدباء باختلاف عصورهم وثقافاتهم وجنسياتهم ليثبت لنا ان الفن بعض من نطفة الإنسان. كما أورد الأديب توفيق الحكيم في سيرته الذاتية: ”الفن هو أداة الإنسانية لتأمل ملامحها ومعرفة نفسها.“ فيعكس الفن بيئتنا بكل مكوناتها تظهر في بيت شعر لقصيدة أو في رنة وترعود أو في وصف في رواية أو في ألوان امتزجت رغم تنافرها على لوحة بيضاء بريشة فنان تثبت لنا أن الإنسان هو أمشاج. وأن اختلاف الوجوه وما تحوي من ملامح علاوة على اختلاف الثقافات وفق أرجاء المعمورة وأمصارها ليعكس ألوانا مختلفة من الفن تبدو في ظاهرها متباينة ولكنها تخرج من مشكاة واحدة، بل ان هناك من ذهب لأبعد من هذا. فيخبرنا ابن سينا بأن المعرفة التي يحصلها الانسان هي شكل من اشكال الفن و قيمة من قيمه.
وعبر مختلف الأزمنة والمجتمعات اثبت الفن كونه ملجأ للهروب من صعوبات الحياة، ففي وصفه للفن قال نيتشه: ”لقد اخترعنا الفن لكي لا نموت من الحقيقة.“ و أن الدارس للسلوك الإنساني في المجتمعات عبر التاريخ ليجد أن الفن هو السلاح الذي يعبر به الإنسان عن نفسه وألمه. وتجلى هذا الشكل في أغنية حرب Çanakkale الشعبية التي تتحدث عن آلام الحرب، وفي المعزوفة الخامسة لبيتهوفن وتمثيلها للثورة الفرنسية. بل ونرى الإنسان البسيط يتغلب على مشقّة عمله وآلامه ببعض الأهازيج، أما ترى البنائين منذ القدم يستعينون على مشقة عملهم بالغناء والأناشيد وبعض الصيحات المنغمة، ولنا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في غنائهم في أحلك أوقاتهم أثناء حفر الخندق و قد اجتمعت عليهم الأحزاب لاستئصال شأفتهم من الجزيرة العربية وذلك بترديدهم نشيدا مطلعه؛ “اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة”. هذا علاوة على حداء المسافرين في الصحراء تحت لهيب الشمس ومع معاناة سفرهم.
ومن هذه الأعمال الفنية ما وسم بالسرمدية وكان عابرا للحدود والثقافات واللغات والتاريخ. ففي إحدي أسفاري دعيت لحفل غنائي بمدينة إندونيسية تسمي “جوكجا” مغرقة في ثقافة الحضارة الجاوية القديمة. وقد عبّر لنا الداعي؛ “وقد كان شاعرا وفيلسوفا ومغنيا مشهورا يدعى” عن ترحيبه بنا كأسرة عربية وحيدة في هذا الحفل العظيم وذلك بغناءه مع فرقته إحدى قصائد الشاعر التونسي؛ بيرم التونسي والتي تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم بعنوان ”القلب يعشق كل جميل.“ هذا الذى أثار دهشتي فكيف لهذه الكلمات يكتبها شاعر تونسي بلهجة عربية مصرية لتغنيها مغنية مصرية من أعظم مغنيات العصر الحديث ولتعزف موسيقاها بعد أكثر من خمسين سنة فرقة موسيقية جاوية على آلات جاوية قديمة. إنها سرمدية الفن وخلوده فبعض ألوان الفن لا يؤمن بالحدود ولا اختلاف اللغات. وكيف لأغنية عربية أن تبلغ الشرق الأقصى وتعزف بلحن جاوي الثقافة لتنتج لنا هذا النتاج الفني العجيب.
نعم في الفن مساحة للمزج بين ثقافتين مختلفتين مع الحفاظ على تفرّد كل منهما بهويته ولونه لينتج هذا التجانس إبداعا إنسانيا تطرب له الأذان. مما شجعني يومها على سؤاله هل يفهم الجمهور العربية لكن إجابته كانت: الجمهور يشعر ويحس وهذا يكفي.
يومها طلب مني هذا المضيف المشاركة بقصيدة عربية على المسرح، فلم تسعفني ذاكرتي إلا بقصيدة للحلاج، والذي زاد يومها من دهشتي وجود جمع من الحضور يحفظها. فكأن قول الحلاج: والله ما طلعت شمس ولا غربت يصدقه انتشار قصيدته حتى بعد مرور أكثر من ١١٠٠ عام على مقتله ويتغنى بقصيدته جمع من الجاويين في أقصى شرق الكرة الأرضية. وما أتم دهشتي معرفة أن تلك القصيدة قد ألقيت في عدة محافل بالغرب، إن فكرة أصولية الفن وتوحده مع الإنسان هي ذات الفكرة التي وصف بها مولانا الرومي أنين الناي الذي يحن لجذر شجرته الأم