لا أدري إن كان هناك أمرٌ في الحياة أدعى للشفقة والتخلف الحضاري من وجود خُلق “الغرور والكبر” وممارستنا له في حياتنا، والاحتفاء به كسلوك واعٍ أو غير واع.
إنّ هناك كثيراً من البشر يظنون أن حماية النفس وإشباع حاجاتها لا يكون إلا عن طريق حجابٍ كثيفٍ من الغرور والكبر، يحمون أنفسهم ويغطون نقصهم من خلاله.
لقد خُلق الإنسان مجبولا على حب القوة والاستقلال الذي يستطيع من خلاله أن يقوت نفسه ويشبعها من ناحية مادية ومعنوية، وكذلك أن يحميها ويحمي أحبته من المخاطر التي تحيط بهم، وعلى رأس تلك المخاطر: غضب “الإله” أو كيد “الشيطان”، وشر الناس من حوله.
ولكن حماية الإنسان لذاته وحبه لها يختلف مفهومها وتختلف انعكاساتها على سلوكه بحسب “الإله” الذي يعبده، فإن كان يسعى ليعبد الإله الصحيح ويبحث عن الوجهة الحقيقية فسعيه وبحثه هذا كفيلٌ بأن يرسم له مسارً أكيدًا من السعادة في هذه الحياة التي يعيشها وكذلك الحياة التي تنتظره بعد الموت، وإن ضل طريقه وخالقه ورسم لنفسه مسارً شهوانيًا متجبراً دون اعتبارٍ للمبادئ الأخلاقية –أو المروءة كما نصفها نحن العرب- فحينها يكون قد ضر نفسه ونصّب لها عدوا خفياً من حيث لا يشعر.
ومن وجهة نظر دينية، يعتبر الإسلام أن صفة “الكبر” صفة غير مقبولة بل ومستهجنة تماما، إذ أن القلب إن كانت فيه ذرةً واحدة من هذه الصفة فإنها كفيلة بمنعه من دخول الجنة.
وكذلك يعتبر الإسلام أن الكبر هو السبب الرئيسي لسلسلة متعددة من الآثام والخطايا، وعلى رأس هذه السلسلة رفض الحقيقة وعدم الانصياع لمن يقول بها، والاستهزاء والاستخفاف بأتباعها.
فإبليس طُرد من رحمة الله عندما تكبر بعلمه وعبادته ورفض السجود لآدم لأنه ظنَّ أنه “أقل منه درجة”، وقوم النبي شُعيب –عليه السلام- رفضوا اتباع الدين الذي جاء به لأنه كان “أعمى” لا يرى بعينيه، ولأنه جاءهم بأمرٍ جديد غريبٍ على ثقافاتهم وعاداتهم، فاتهموه بأنه ضعيف وليس بشخصٍ “عزيزٍ” بالنسبة إليهم.
فلاحظوا صديقاتي القارئات كيف منع الكبر هؤلاء القوم من الإيمان بالله وتقبل الدين الذي كان سيساعدهم في حل كثيرٍ من الإشكالات الوجودية والحضارية.
وإن المعضلة الحقيقية التي يواجهها أهل الكبر ولا يستطيعون بها مواجهة ما يحدث معهم في الحياة هو أنهم يفتقدون صفة نفيسة وغالية جداً وهي صفة “الصدق”، فالصدق بوابة التواضع، وبالصدق ينال الإنسان محبة ربه وتوفيقه، وينال به سمعةً طيبةً بين الناس.
وهناك مقولة صادفتها في إحدى تصفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل الكثير من الحكمة والواقعية تقول :
“كثيرٌ من الناس يطالبك أن تقول الحقيقة ،
ولكن القليل منهم الذي يقبل منك الصدق”
ولقد توقفت حينها لأرجع بذكرياتي عندما كنت في مقتبل الصبا، وتذكرت زميلتي في الدراسة وقد قضت يومها كله في اللهو واللعب ولم يبقَ وقت لتنظف غرفتها وتحل واجباتها كما طلبت منها أمها التي خرجت خارج البيت، فاتصلت بي تشتكي وتقول ماذا أفعل الآن؟ هل أخدع أمي وأخبرها أني كنت متعبة ولم أجد وقتا لأقوم بما وعدتها به؟ أم أكون صادقة وأخبرها بالحقيقة وليحدث ما يحدث؟
سألتها: “هل ستعاقبكِ أمكِ أم أنها ستتقبل الأمر بصدر رحب” ؟
فقالت: “ستغضب جدا وربما ستعاقبني، ولكني سأختار الصدق ولن أكذب لأن الله لا يرضى بذلك !”
فتعجبت حينها من عظيم إيمانها وشجاعتها على الرغم من صغر سنها وعدم تجاوزها العشر سنوات.
وعلى بساطة الموقف وطرافته، إلا أنه يفتح الباب للحديث عن النظرة المثالية التي يتمسك بها أصحاب المبادئ وانتقاد كثيرٍ من الناس لهم، وهو موضوعٍ آخر يضيق بنا المقام لذكره.
وليكن مسك ختام مقالتنا اليوم وصية لقمان الجميلة لابنه وهو يعظه:
“وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور“[1]
[2] سورة لقمان، 18